"الجورنيكا"
لوحة الفنان العالمي بيكاسو التي أثارتها الظروف المحيطة به، وعكست ما
يتعلق بتطور أفكاره السياسية… لتأتي ردًّا على الاعتقاد السائد بأن الفن
–وخصوصا التشكيلي منه- شيء ترفيهي لمجرد المتعة البصرية والإمتاع، وأنه في
كثير من الأحيان يبعد تمامًا عن المجتمع المحيط به ولا يمت له بصلة… ولكن
الحقيقة التي أثبتها كثير من الفنانين على مر الأزمان هي أن الفن ضرورة من
ضروريات الحياة وأن فلسفة الفن للفن هي فلسفة غير صحيحة وليست واقعية،
ولكن الواقع أن الفنان المبدع الحقيقي يتأثر كثيرًا بما يدور حوله من ظروف
اجتماعية وسياسية، ويكون ذلك هو "المثير" لفنه وإبداعه.
كان
بيكاسو قد بلغ القمة في عام 1936 فأصبح اسمه في مقدمة المرموقين في الفن
التشكيلي؛ فقد أقام في الفترة من يناير إلى مايو من تلك السنة ثلاثة معارض
مهمة في أسبانيا مسقط رأسه.
وفي يوليو من عام 1936 انتشرت الأنباء
عن الاضطرابات الخطيرة التي تعرضت لها أسبانيا والتي كانت بداية الحرب
الأهلية، وأمام هذا التطور الدرامي الخطير في الأزمة الأسبانية، كان على
بيكاسو –وغيره من الفنانين- أن يعلنوا عن موقفهم تجاه القضايا السياسية
المثارة.
وكان بيكاسو منذ وقت مبكر متعاطفًا مع الاشتراكيين
ومؤيدًا للجمهورية، بل إنه كان يبيع الكثير من لوحاته التي كان ينوي
الاحتفاظ بها حتى يواصل جهوده في مساعدة أطفال أسبانيا من ضحايا الحرب.
ولم
يكن بيكاسو يستطيع أن يخفي كرهه وازدراءه لزعيم اليمين الأسباني الجنرال
فرانكو، وقد قدم ألبومًا في يناير سنة 1937 يحمل عنوان "حلم وسقوط فرانكو"
يحتوي على 18 رسمًا محفورًا على المعدن تصور القسوة والعنف البالغين في
الحرب الأهلية الأسبانية. وقد طبعت هذه الرسوم وبيعت بعد ذلك في شكل
بطاقات بريدية لصالح حكومة الجمهورية الأسبانية.
البداية.. المدينة الوادعة
وفي
يناير من عام 1937 طلبت حكومة الجمهورية الشرعية من بيكاسو أن يعد لها
تكوينًا ضخمًا يصلح كديكور للجناح الأسباني في معرض باريس الدولي...
واحتار بيكاسو فيما يمكن أن يرسمه ليحقق هذه الغاية القومية النبيلة. وظل
في حيرته هذه حتى حدثت تلك الحادثة الوحشية التي قرر بيكاسو لأول وهلة أن
يجعل منها موضوعًا أو (تيمة theme) لعمله.
كان اليوم السادس
والعشرون من شهر إبريل (نيسان) عام 1937 هو يوم السوق في مدينة الجورنيكا
الصغيرة التي تقع في إقليم الباسك الأسباني.. في هذا اليوم الرهيب قامت
طائرات هتلر الحربية التي كانت في خدمة الجنرال فرانكو وحزب الكتائب أثناء
الحرب الأهلية الأسبانية، بقصف المدينة الوادعة التي خلت من الرجال لأنهم
كانوا جميعا في الجبهة، ولم يبق فيها إلا النساء والأطفال والشيوخ وبعض
المدافعين عن المدينة. وقد استمر هذا القصف الوحشي لمدة ثلاث ساعات ونصف
بحيث سويت المدينة بالأرض. وقد كان الغرض الأساسي من هذا القصف هو اختبار
الآثار التدميرية الناتجة عن نوع جديد من القنابل الحارقة شديدة الانفجار
على السكان المدنيين.
رحلة العمل.. من الانفعال إلى الجوهر
بدأ
بيكاسو العمل على الفور، فرسم في أول مايو "إسكتشا" تخطيطا أوليا يحتوي
على الملامح الرئيسية للوحة النهائية، إلا أنه كان مجرد خطوط غامضة غير
واضحة المعالم. وقد استمر ذلك شهرًا كاملاً من العمل المضني منذ بداية
الرسم الأولي وحتى اكتمال اللوحة.
وتوضح لنا الصور الفوتوغرافية
التي أخذت للجورنيكا في مراحلها المتعددة، وكذلك الإسكتشات والرسوم التي
صاحبت البداية الأولى، أو تلك التي أتت في بعض الحالات بعد اكتمال العمل
-أن الأمر كله أبعد من أن يكون ارتجال العبقرية؛ فالجورنيكا قد كلفت
بيكاسو من العناء والعناية الشيء الكثير، كما أثارت فيه أيضا الكثير من
اللوعة والحسرة.
وكان بناء اللوحة بأكملها مرحلة إثر مرحلة وتفصيلا
إثر تفصيل بواسطة الرسم بقلم أسود، وأقلام الفحم والحبر والريشة، وكانت
ترسم مساحات بلون واحد أسود ثم تمسح بعض أجزائها لتصبح بيضاء.
============================
المراحل التي اجتازتها الجورنيكا
وقد
وصلت بعض هذه الدراسات التي أجريت على أجزاء من اللوحة إلى حد من التركيز
في التعبير، لدرجة أنها أصبحت أعمالا فنية مستقلة بذاتها، فعلى سبيل
المثال نجد ذلك الرسم الذي يحتوي على رأس حصان بعينيه الزائغتين، وفتحتي
منخاريه المتسعتين، ولسانه الذي يشبه رأس خنجر مدبب داخل شدقيه الفاغرين.
ولكي
نتابع التطور الكامل الذي سار فيه العمل ينبغي أن نعود مع بيكاسو إلى
التاسع من مايو، حيث كان يفكر في موضوعه بنوع من الانفعال الخالص، وأنه
كان غير قادر تحت ضغط اللحظة الراهنة على تجنب شيء من المبالغة في
التعبير عن موضوعه، وقد كانت هذه هي المرحلة الأولى.
وحينما
بدأ المرحلة الثانية في الحادي عشر من مايو في نقل هذه الدراسة على القماش
وهو في مزاج أهدأ، كان عنده بالفعل نزعة نحو تبسيط الدراما وتخفيضها إلى
أضيق الحدود الممكنة.
ومع
ذلك ظلت هناك تغييرات مهمة في المرحلة الثالثة، منها مثلاً أن الحصان الذي
كان منهارًا تمامًا ورأسه مهشمًا على الأرض ولا يعدو أن يكون شيئًا جامدًا
مجردًا من الحياة، أصبح يبدو في العمل النهائي وهو يشب على قائمتيه
الأماميتين كمظهر من مظاهر الاحتجاج.
وفى
المرحلة الرابعة خضعت اللوحة لتغييرات حاسمة هي التي حولتها إلى ذلك العمل
الثأري الذي شاهدناها عليه، لقد بدأت الدراما في هذه المرحلة توظف وأصبحت
تقوم الآن بعملها بعد أن خففت تدريجيًّا بحيث لا تحتوي إلا على ما هو
جوهري، وخلصت من كل ما كان يشوبها من انفعال لحظي.
وبمجرد أن انتهت الجورنيكا وضعت في الجناح الأسباني في معرض باريس الدولي. وهكذا اكتسبت اللوحة هذا التقدير العالمي الواسع.
الجورنيكا تطلب الانتقام
كان
بيكاسو حين شرع يرسم الجورنيكا قد ألقى جانبًا -وهو منغمر بموجة قوية من
الانفعال الذي ثار من أعمق أعماقه- بكل ما هو متعارف عليه من وسائل ومبادئ
تقليدية كالموضوع أو التيمة، والمحاكاة، واتخاذ المثال، والمنظور،
والتلخيص أو التركيز.
هجر بيكاسو كل ما في جعبة الفنان التقليدي من
حيل فنية، حتى اللون نفسه رفضه عن عمد حتى لا تنقص مكانته شيئًا من مضمون
اللوحة أو تلطف من حدة الإيقاع الدرامي لها. فلا شيء أمامنا سوى الألوان
السوداء والبيضاء والرمادية التي تتشابك معًا في ضجة وصخب منظم ومنهجي،
فالأشكال قد حُررت من مظهرها التقليدي بينما ظلت تحتفظ بكل قيمتها الرمزية
المكتسبة. فوحشية الحرب وجورها يظهران لنا عن طريق الوجوه الملتوية
والأفواه الفاغرة والطير التي تتأوه من أعماق قلبها والحصان الذي يصهل من
شدة الفزع، والأجساد التي تهوي تحت أقدام الوحش ذي الحواجب الخنفسية،
وآلهة الانتقام التي تستطيع أن تتحدى الضوء الكهربي المعتم الذي يأتي من
مصباح عتيق عقيم.
وقد أثبت التاريخ أن بيكاسو كان على حق؛ فقد جعل
من هذه اللوحة العظيمة شاهدًا متوقدًا ينضح بالألم ضد القوة العدوانية
البربرية في أي مكان؛ ولذا فإن هذه اللوحة تحمل تحذيرًا للجنس البشري كله
ضد الاندفاعات المجنونة التي أطلقت قوى الظلام لتعيث في الأرض فسادًا.
وظلت الجورنيكا باعتبارها صرخة الأرض الثائرة التي تطلب الانتقام حتى الآن رمزًا لذلك المعنى، ولم تفقد أبدًا شيئا من قوتها.